الحمدُ للهِ، وسلامٌ على عبادِه الذين ٱصْطَفَىٰ، أَمَّا بَعْدُ:
فإنَّ تحقيق مخطوطات تراثنا الخالد من أَجَلِّ الأعمال العلمية في خدمة ذلك التراث، وقد صَدَرَ الكثيرُ من الكتب المحققة، لكنها تتفاوت في مقدار خدمة النص ودقة ضبطه، ويرجع القصور في معظم الحالات إلى أنَّ بعض المحققين يتصدى لتحقيق نصوص لا يَعْرِفُ دقائق مسائلها أو دلالة مصطلحاتها، فيقع في أوهام قد تُفْسِدُ المعنى، وتَحُولُ دون ٱستفادة القارئ من تلك النصوص، فتنعدم الفائدة حينئذ من طبع النصوص، ويكون الرجوع إلى مخطوطات بعض الكتب المطبوعة أنفعَ من الرجوع إلى طبعاتها!
وقد لَفَتَ نظري إلى هذا الموضوع وحَفَّزَنِي لكتابة هذه المقالة حوله أني كنت أقرأ في كتاب (إعراب القرآن) لأبي جعفر النحاس، رحمه الله، وٱستوقفتني عبارة ٱستغلق عليَّ فهمها لأول وهلة، ورجعتُ إلى أكثر من طبعة من طبعات الكتاب فوجدتها متفقةً على ضبطها، وخَطَرَ ببالي ٱحتمالُ أَنْ تكون بعض كلماتها قد تَحَرَّفَ أو تَصَحَّفَ، وبعد تقليب النظر فيها، والرجوع إلى إحدى مخطوطات الكتاب، تبين حصول تصحيف في كلمة فيها، أَدَّىٰ إلى ٱستغلاق العبارة وغموض معناها.
ويرجع سبب ذلك الخلل في معظمه إلى ٱفتقار المحققين للكتاب، في طبعاته المتعددة، إلى الإحاطة بدقائق جانب من موضوعات الكتاب، فقد يكون المحقق عارفاً بالإعراب، لكنه غير عارف بدقائق علم القراءات، أو بالعكس، فيؤدي ذلك إلى وقوع تحريفات في قراءة النص وضبطه، وهي لا تقلل من الجهود الكبيرة التي بذلها المحققون في إخراج هذا الكتاب العظيم، والإفادة من تلك الطبعات، لكن القارئ يطمح دائماً إلى أنْ يَجِدَ نَصّاً سليماً خالياً من التحريف.
والعبارة التي ٱستوقفتني في كتاب (إعراب القرآن) للنحاس جاءت في إعراب الآية (91) من سورة البقرة، وهذا نص الفقرة: (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ: الأصل (فَلِمَا)، و(مَا) في موضع خفض باللام، وحُذِفَتِ الألفُ فرقاً بين الاستفهام والخبر، ولا ينبغي أنْ يُوقَفَ عليه، لأنَّهُ إنْ وُقِفَ عليه بِلَا هاءٍ كان لَحْناً، فإنْ وُقِفَ عليهِ بالهاءِ زِيدَ في الشَّوَاذِّ).
وكلمة (الشواذ) الواردة في النص تبدو غير منسجمة مع السياق، لأنها تدل على القراءات التي لم تستوف شروط القراءة الصحيحة، قال ابن الجزري في النشر (1/ 9): (كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا وصح سندها، فهي القراءة الصحيحة ... ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة).
ونظرتُ في أكثر من طبعة من طبعات الكتب، لمحققين مختلفين، لا أَجِدُ ضرورة لذكر أسمائهم، فوجدت الفقرة واحدة في جميع تلك الطبعات: (زِيدَ في الشَّوَاذِّ)، وهذه صورتها فيها:
ويدورُ كلامُ النحاس في هذه الفقرة على الوقف على: (فَلِمَ)، وهو ينصح القارئ بعدم الوقوف عليها، لأنه إذا وَقَفَ عليها بالسكون هكذا: (فَلِمْ)، كان ذلك لحناً، لأن العرب لا تقف على (ما) الاستفهامية التي يدخل عليها حرف الجر بالسكون، لأن الفتحة دليل الألف المحذوفة، بل يُلْحِقُونَ بها هاء السكت، فيقولون: (لِمَهْ، وفِيمَهْ، وعَلَامَهْ). قال ابن يعيش في شرح المفصل (5/128): (ولا تُحْذَفُ ألفُ (ما) إلَّا إذا كانت ٱستفهاماً عند دخول حرف الجرِّ عليها، نحوَ قوله: لِمَهْ، وبِمَه، وعَمَّهْ).
وقال أيضاً وهو يُوَضِّحُ سبب زيادة هذه الهاء في هذه المواضع (5/174): (هذه الهاء للسكت، تُزَادُ لبيان الحركة زيادةً مُطَّرِدَةً في نحو قولك: فِيمَهْ، ولِمَهْ، وعَمَّهْ، والمراد: فِيمَ، ولِمَ، وعَمَّ، والأصلُ: فِيمَا، ولِمَا، وعَمَّا. دخلت حروفُ الجرِّ على (ما) الاستفهاميّةِ، ثمّ حُذفت الألف للفرق بين الإخبار والاستخبار، وبَقِيَتِ الفتحةُ تدل على الألف المحذوفة، ثمّ كرهوا أن يقفوا بالسكون، فيزول الدليلُ والمدلولُ عليه، فَأَتَوْا بالهاء لِيقع الوقفُ عليها بالسكون، وتَسْلَمَ الفتحة التي هي دليلٌ على المحذوف).
وإذا وَقَفَ القارئ على (فَلِمَ) في الآية، وألحق بها هاء السكت وقال: (فَلِمَهْ)، فقد وَافَقَ كلام العرب، لكنه زاد على رسم المصحف حرفاً ليس فيه، وأخَلَّ بذلك بأحد شروط القراءة الصحيحة الثلاثة، وهي: أن تكون القراءة مَرْوِبَّةً، وموافقةً لخط المصحف، وموافقةً لكلام العرب.
ورجعتُ إلى مخطوطة كتاب (إعراب القرآن) المحفوظة في مكتبة الفاتح بإستانبول برقم (88)، وهي إحدى مخطوطات الكتاب التي اعتمد عليها محققو الكتاب، وتأكد لي أن عبارة: (زِيدَ في الشواذ) قد لحقها التصحيف، وأن القراءة الصحيحة هي: (زِيدَ في السَّوَادِ)، ويعني بكلمة (السواد) رسم المصحف، وهذه صورة ذلك في المخطوطة:
وٱستعمال مصطلح (السواد) للدلالة على خط المصحف معروف في كتب المتقدمين، وقد ٱستعمله النحاس كثيراً في كتابه (إعراب القرآن)، فقال وهو يتحدث عن الوقف على كلمة (يَمْحُ) في قوله تعالى : (ويَمْحُ اللهُ الباطِلَ) [الشورى:24]: (لا ينبغي الوقوف عليه، لأنه إنْ أَثْبَتَ الواوَ خالفَ السَّوَادَ، وإنْ حَذَفَها لَحَنَ)، (إعراب القرآن 4/56).
وتكررت الإشارة إلى هذا المعنى في كتاب (إعراب القرآن) النحاس، وذَكَرَ كلمة (السواد) وهو يتحدث (2/21) عن الوقوف على قوله تعالى: (فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ) في سورة الأنعام [90]، (ينظر: إعراب القرآن 2/21)، وكذلك الوقوف (5/17) على كلمة: (حِسَابِيَهْ) [الحاقة:26]، (ينظر: 5/17).
وليس غريباً أن يقع المحقق في بعض الأوهام، لكن ينبغي أن يحرص على السلامة منها قدر المستطاع، حتى يؤدي الأمانة كاملة، وهو يتصدى لإخراج كتاب من كتب العلماء السابقين، ومما يساعد على ذلك ويعين عليه أن يشتغل المحقق في تحقيق كُتُبٍ له معرفة بموضوعها، والتوافق بين ثقافة المُحَقِّقِ وموضوع الكتاب الذي يحققه شرط لسلامة النص المُحَقَّقِ من الأوهام.
فإن وُجِدَ مخطوطٌ لموضوعه علاقة بأكثر من علم، مثل علم القراءات وعلوم اللغة، أو الفقه وعلم النحو، أو علم الحديث وعلوم اللغة، فإنه يستحسن أن يتصدى لتحقيقه أكثر من محقق، تتناسب تخصصاتهم والعلوم التي يتعلق بها موضوع ذلك المخطوط، أو أن يلجأ المحقق إلى طلب المساعدة من متخصص في العلم الذي لا يتقنه ليراجع النص المحقق، ليستدرك من خلال تلك المراجعة ما يكون قد وقع فيه من أوهام، قبل أن يدفع بالكتاب إلى الطباعة.
واللهُ تَعَالَىٰ وَلِيُّ التوفيقِ.
د. غانم قدوري الحمد
1/1/2024م = 19/6/1445هـ