الحمدُ للهِ ، وسلامٌ على عبادهِ الذينَ ٱصْطَفَى ، أَمَّا بَعْدُ
فقد حَصَلَ تَغَيُّرٌ كبيرٌ في أدوات البحث العلمي ووسائله ، منذ الوقت الذي بدأتُ فيه رحلة البحث والتحصيل العلمي ، قبل خمسين سنة ، والوقت الذي أوشك أنْ أختمَ فيه رحلتي الآن ، فقد تَغَيَّرَتْ أشياءُ كثيرة من تقاليد البحث العلمي ، وبخاصة في أدوات البحث ووسائله ، وكلما تَأَمَّلْتُ في ما كانت عليه ، وما صارتْ إليه ، أثار ذلك دهشتي ، وحَمَلَنِي على التفاؤل في مستقبل البحوث العلمية في التخصصات التي ٱشْتَغَلتُ بها وبغيرها ، إنْ أَحْسَنَ الباحثون ٱستثمار هذه الوسائل الجديدة التي أتاحها التقدم العلمي في العقود الأخيرة ، وقد تكون هناك سلبيات لبعض مظاهر ذلك التقدم ، لكن الإيجابيات بالتأكيد أكبر وأكثر ، وهي تحقق أمرين مهمين :
الأول : اختصار المجهود في الوقت والمال والمساحة.
والثاني : الدقة وتقليل فرص الخطأ.
وسوف أذكر أهم الجوانب التي يتمثل فيهل ذلك التقدم :
الأول : الحاسوب ، ويسميه البعض (الحاسبة) ، وهي آلة حديثة ، تقوم بعلميات أكبر من الحساب ، ولعلها أَخَذَتْ هذا الاسم من كونها قامت في أول أجيالها بعمليات الحساب أكثر من غيرها ، وهي أنواع وأحجام ، وتستعمل في جميع مجالات الحياة ، ويُعْتَمَدُ عليها في إدارة أكبر العمليات وأصغرها.
والحواسيب التي بأيدي الباحثين في مجال التخصصات الإنسانية من النوع الصغير الحجم ، والسهل الاستعمال ، وهي أيضاً أنواع وأحجام ، وهي تقوم بأعمال كثيرة ، منها :
1. حفظ الوثائق ، من كتب ومستندات وصور ، بأشكال متعددة.
2. تيسير طباعة البحوث وغيرها من النصوص التي يحتاجها الباحثون.
3. وسيلة للاتصال بأنواعه الحديثة.
4. وسيلة عرض للبحوث والمستندات.
وكان الباحثون قبل عصر الحاسوب يذهبون إلى المكتبات العامة والخاصة للحصول على الكتاب ، وينفقون كثيراً من الوقت والجهد والمال للوصول إلى المصادر التي يحتاجونها ، ويمكن الآن الحصول على ذلك كله بسهوله وحفظه في الحاسوب ، والرجوع إليه وقت الحاجة ، وكان الباحثون يحملون أوراقهم وسجلاتهم وبطاقاتهم وأقلامهم ، ويبدو أنهم لن يحتاجوا إلى ذلك كله في عصر الحاسوب.
الثاني : وسائل الاتصال السريع
كانت وسائل الاتصال قبل نصف قرن تعتمد على الهواتف السلكية ، وعلى البرقيات التي تصل خلال أربع وعشرين ساعة إلى المرسل إليه ، وهي لا تتضمن عادة إلا القليل من الكلمات ، ولابد من الذهاب إلى مكاتب البريد لإرسالها ، وتعتمد كذلك على الرسائل الورقية والطرود التي ترسل من مكاتب البريد ، ويستغرق وصولها أياماً ، أو أسابيع إذا كانت بين الدول.
ولم تنقرض بعض تلك الوسائل للتواصل والمراسلة في هذا الزمان ، لكن حَلَّتْ مكانها وإلى جانبها وسائل الاتصال الإلكتروني ، عبر الهواتف النقالة ، والحواسيب ، مثل البريد الإلكتروني ، وبرنامج (الواتس آب) ، وما أشبهه ، وهي سريعة ، وذات كفاءة عالية ، وتصل إلى وجهتها فوراً من غير تأخير ، ويشمل ذلك إرسال البحوث ، والمجلات ، والكتب ، والصور ، وغيرها.
الثالث : التصوير الرَّقميُّ (الدِّجِتَل)
توفرت في السنوات الأخيرة أدوات التصوير الملون ، ويمكن استعمالها بسهولة وبدقة عالية ، مثل آلات التصوير (الكمرات) ، والماسح الضوئي (السكنر) ، وقد جَرَى استعمالها في تصوير المخطوطات ، بعد أن كانت المخطوطات تُصَوَّرُ بالأسود والأبيض ، وكان التصوير الملون مكلفاً ، إن تيسر ، واليوم تتسابق المكتبات في العالم إلى تصوير كنوزها من المخطوطات ، ونشرها في الشبكة الدولية للمعلومات.
وكان المشتغلون بتحقيق المخطوطات يعانون من صعوبة قراءة المخطوط المصور بالأسود والأبيض ، وقد تُشْكِلُ عليهم قراءة بعض الكلمات ، وتَصْعُبُ قراءة بعض المواضع ، يَعْرِفُ ذلك كل من تعاطى التحقيق من خلال مخطوطات مصورة بالأسود والأبيض ، وعندي أمثلة كثيرة على ذلك من الكتب التي حققتها قديماً ، وأعدت تحقيقها في السنوات الأخيرة بالاعتماد على نسخ مصورة بالألوان ، وسوف أكتفي بمثال واحد مما وقفت عليه ، وعندي مخطوطته ، وهو كتاب البديع في القراءات لابن خالويه.
كنتُ قد حصلت على مصورة من مخطوطة الكتاب المحفوظة في مكتبة جستربتي بمدينة دبلن بإيرلندة ، في الثمانينات من القرن الماضي ، مصورة بالأسود والأبيض ، واشتغل بتحقيقها صديقي الدكتور جايد زيدان مخلف ، رحمه الله تعالى ، في أطروحته للدكتوراه ، وكان يعاني من صعوبة قراءة بعض كلمات النسخة المصورة ، وكانت حواشي الكتاب الخاصة بالقراءات الشاذة أكثر صعوبة ، لأنها تبدو في كثير من المواضع مشوشة ، وغير واضحة ، واكتفى بتحقيق متن الكتاب.
وكان نَشْرُ نسخة مصورة بالتصوير الحديث لمخطوطة الكتاب قبل مدة يسيرة مفاجأة كبيرة لي ولكثير من المهتمين بالكتاب ، فقد أظهر التصوير المواضع غير المقروءة في الكتاب ، والألوان التي كُتِبَتْ بها حواشي الكتاب ، فَجَمَعَتِ النسخة الحديثة بين الوضوح وجمال الألوان ، وهذا نموذج مصور من النسختين :
ولا يخفى على القارئ الكريم الفرق في وضوح الصورتين ، وسهولة القراءة في النسخة الملونة ، مع ما فيها من جمال الألوان ، ودقة الصنعة.
والأمثلة على ذلك كثيرة ، ولعل من أعظم الأمور التي حققها التصوير الرقمي للمخطوطات العربية تصوير المصاحف المخطوطة ، فقد أظهرتِ النسخ الملونة للمصاحف دقائق الرسم وعلامات الضبط في المصاحف خلال القرون المتتابعة ، ويتيح ذلك للدارسين تتبع مراحل تطور علامات الضبط ، على نحو دقيق ، وهذا مثال من المصحف المنسوب للداني ، المحفوظ في مكتبة ميونخ بألمانيا ، وكنتُ قد حصلت على نسخة منه مصورة بالأسود والأبيض ، وحصلت أخيراً على نسخة ملونة منه :
صورة بالأسود والأبيض
صورة بالألوان الأصلية
الرابع : برامج الطباعة الحديثة
كان إعداد البحوث الأكاديمية للطباعة يمر بعدة مراحل ، من كتابة المسودة بخط اليد ، وتبييضها بخط اليد أيضاً ، ثم تقديمها للآلة الكاتبة ، ويمكن أن يقوم الكاتب بكتابة نسخة واحدة ، أو يقوم بوضع ورق الكاربون بين الأوراق البيضاء لإخراج أكثر من نسخة ، لكن لا تتجاوز بضع نسخ ، وهي تتفاوت في الوضوح ، وإذا أُرِيدَ كتابة نسخٍ كثيرة يقوم الكاتب بالكتابة على ورق الشَّمْعِ ، ثم توضع ورقة الشَّمْعِ في جهاز طباعي خاص ، كان يمسى (الرونيو) ، لطباعة نسخ كثيرة ، ويصعب حفظ الورق الشمعي بعد الطباعة ، وهناك صعوبة كبيرة في ضبط النص المكتوب بالحركات.
وقد يَسَّرَتْ البرامج الطباعية الحديثة في الحواسيب كتابة البحوث العلمية ، فيمكن اختيار نوع الخط ، وحجمه ، وضبط النص بالحركات بسهولة ، وعمل الجداول ، وتنزيل الصور والخرائط ، وعمل الهوامش ، والفهارس ، كل ذلك يمكن القيام به بسهولة تامة ، يعرفها الباحثون اليوم ، أكثر مما يمكن أن أحدثهم عنه.
وكان كثير من الباحثين قبل عقود يعتمدون على كتاب: (كيف تَكْتُبُ بحثاً أو رسالة) للدكتور أحمد شلبي ، رحمه الله ، في تنفيذ بحوثهم ، وقد طُبِعَ هذا الكتاب طبعاتٍ كثيرةً ، لكن كثيراً من إجراءات البحث التي يصفها الكتاب قد تَغَيَّرَتِ الآن ، ويلزم القائمين على الدراسات العليا أن يعيدوا النظر في أدوات إعداد البحوث في ضوء التقدم الهائل الذي حصل في مجال الطباعة والتصوير والتوثيق الإلكتروني.
الخامس : الموسوعات العلمية الإلكترونية
ومن الوسائل الحديثة التي استجدت في مجال البحث العلمي في السنين الأخيرة الموسوعات العلمية الإلكترونية المتخصصة ، ومن أشهرها اليوم في مجال البحوث الإنسانية (الموسوعة الشاملة) ، وهي تقدم للباحثين المصادر العلمية بصيغة كتابية حية (الوورد) ، ويمكن النسخ منها ، ومن أعظم فوائد هذه الموسوعة خاصية البحث ، فيمكن للباحث أَنْ يبحث عن موضوع ، أو حَدَثٍ ، أو اسم كتاب ، أو اسم عَلَمٍ أو عالم ، في كتاب واحد ، أو مجموعة كتب ، أو في كتب الموسوعة بكاملها ، والحصول على نتيجة البحث في دقيقة واحدة ، أو بضع دقائق ، وهي بذلك تتيح للباحث أفضل ما يبحث عنه في لحظات.
وكان البحث في الكتب الكبيرة عن اسم أو موضوع يأخذ من الباحث وقتاً طويلاً ، ويظل الباحث يقلب النظر في صفحات المصادر ، وقد لا يخرج منها بشيء ، ومن الموضوعات التي كانت تُعْتَمَدُ في الأقسام العلمية جمع نصوص كتاب مفقود ، وقد سُجِّلَتْ رسالة ماجستير قبل أكثر من عشرين سنة عن نصوص كتاب (النبات) لأبي حنيفة الدينوري في معجم لسان العرب ، وكان ذلك يعني أن يقوم الطالب بقراءة اللسان بحثاً عن أبي حنيفة الدينوري في المعجم ، ويحصل الباحث على ذلك اليوم من اللسان في دقيقة واحدة !
وقد تكون لتلك الموسوعات سلبيات ، وقد يكون فيها أخطاء ، لكن ما فيها من منافع يفوق ما فيها من سلبيات يمكن تفاديها والاحتراز منها.
ولا يَتَصَوَّرُ كثير من الباحثين من الشباب اليوم ما كان يتطلبه إعداد البحوث وكتابتها وطباعتها من جهد ، قبل عدة عقود ، وقد اخْتَصَرَتْهُ وسائل البحث والطباعة والتصوير والاتصال الحديثة ، فَلْيَحْمَدُوا الله تعالى على هذا التيسير والتوفيق ، وَلْيَحْرِصُوا على ٱستثمار ذلك في خدمة العلم ، وكتابة البحوث ، وتحقيق النصوص.
واللهُ تعالى وَلِيُّ التوفيقِ.
أربيل - العراق
1/8/2019م