الحمد لله ، وسلام على عباده الذين اصطفى ، أما بعد
فقد حَظِيَتْ مقالتي : (صفة الهمس في الأداء القرآني) بعناية القراء ، وهذا أمر حسن والحمد لله ، ولم يتفق بعضهم مع ما عرضته فيها ، وهو أمر متوقع ، لأني رجَّحتُ مذهب أهل الأصوات من المحدثين في تعريف صفة الهمس ، ولم يحظ هذا التعريف بالقبول لدى كثير من المشتغلين بالقراءة والتجويد الذين ينتصرون لِمَا هو مُسَطَّرٌ في أكثر كتب هذا العلم من لدن سيبويه إلى زماننا هذا ، وإنما قصدت هؤلاء خاصة في مقالتي ، عسى أن يعيدوا النظر في موقفهم ، وتنبيهاً لهم إلى ما ترتب على عدم الدقة في فهم تعريف الهمس من أخطاء في طريقة أدائه في القراءة.
وكان الأستاذ علي المالكي قد استوقفه عدم وضوح عبارتي في وصف نطق الكاف والتاء ، وعدم تصريحي بإطلاق النَّفَس بعد حبسه في مخرجهما ، وأنا أوافقه في ذلك ، ولم يكن قصدي ما فهمه من كلامي ، فإنتاج الأصوات الشديدة ، مجهورة كانت أو مهموسة ، يتطلب نطقها ثلاث خطوات ، كما يقول أهل الأصوات : حبس النفس في المخرج ، وضغطه ، ثم إطلاقه.
وكتب الأستاذ حسَّان ، جزاه الله خيراً ، تعقيباً على مقالتي (
الرجاء زيارة هذا الرابط لقراءة التعليق كاملا) ، ضمنه عدداً من الملاحظات ، تدور حول ترجيح تعريف سيبويه لصفة الهمس ، وقدَّم تفسيراً لِمَا يبدو من غموض في ذلك التعريف ، واستدل بكلام عدد من علماء التجويد ، ورجَّحه على تعريف المحدثين للمهموس ، وأَعْرَبَ في مقدمة تعقيبه عن رغبته في أَنْ أجد في ما كتبه ما يُجَلِّي الموضوع أو أَن يجد هو عندي ما يزيل اللبس عنه ، وقد كَتَبَ ذلك بأسلوب موضوعي أشكره عليه.
وسوف أُعَلِّقُ عليه باختصار ، ليس لغرض الدخول في جَدَلٍ حوله ، ولكن لرغبتي في أن تكون وجهة نظري فيه واضحة لديه ولدى المعترضين والمترددين في قبول تعريف الصوت المجهور والصوت المهموس عند المحدثين ، أما قضية اجتماع الشدة والهمس في الحرف ، وهي الأصل الذي انبنت عليه مقالتي ، فقد أعود للحديث عنها في مقالة أو بحث منفرد ، إن شاء الله تعالى.
تعليقي على تعقيب الأستاذ حسان
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، لم يثقل عليَّ ما ذكرت ، وها أنا ذا أحتفل به وأقول : قد يطول الحديث إذا تناولت الموضوع من جوانبه المتصلة به كافة ، ومن ثم فإني سوق أقتصر على التعليق باختصار على ما ورد في تعقيب الأستاذ حسان ، لتوضيح وجهة نظري في النقاط التي ذكرها ، وليكون الموضوع خفيفاً على متابعيه ، وذلك من خلال مناقشة ثلاثة أمور : موضع الجهر والهمس ، وتعريف سيبويه للمجهور والمهموس ، وتعريف أهل الأصوات لهما :
موضع صفة الجهر والهمس :
تَحُدُث صفة الجهر والهمس في الحنجرة ، باهتزاز الوترين مع المجهور ، وسكونهما وتباعدهما مع المهموس ، وهذه حقيقة ثابتة يمكن رؤيتها الآن بناظور الحنجرة ، إلى جانب الإحساس بأثرها ، ولا سبيل إلى إنكارها أو التغاضي عنها ، وأشير هنا إلى أنه على الرغم من أن الجهر والهمس مصدرهما الحنجرة فإنَّ أثرهما يُحَسُّ في المخرج من ناحيتين :
الأولى : ارتجاف جانبي المخرج مع المجهور بتأثير اهتزاز الوترين ، ويظهر ذلك بإطالة النطق بصوت الذال مثلاً : ذذذ ، بنَفَسٍ واحد متصل ، وعدم حصول ذلك مع المهموس ، كما في نطق : ث ث ث ، بنَفَسٍ واحد متصل.
الثانية : ضَعْفُ تدفق النّفَسِ مع الصوت المجهور ، وقوته مع المهموس ، أو بحسب تعبير محمد المرعشي : نَفَسُ المهموس كثير ، ونَفَسُ المجهور قليل ، وقد تكون هذه الملاحظة مفيدة في فهم تعريف سيبويه للمجهور.
تعريف المجهور والمهموس عند أهل الأصوات :
بدأ الأخ حسان تعقيبه بالقول إن المقولة السابقة تخالف تعريف سيبويه للمجهور ، واسترسل في توضيح تعريف سيبويه بكلام الشيخ المرصفي في كتابه (هداية القاري) ، وبين سيبويه والمرصفي عشرات العلماء الذين حاولوا توضيح تعريفه ، لا يتسع المقام لمتابعة أقوالهم ، وسبق لي تتبعها في أكثر مكان ، وأشير هنا إلى أن المتقدمين منهم لم يصرحوا بكلمة المخرج في التعريف ، كما صرَّح المرصفي وغيره من المتأخرين بقولهم : الجهر «قُوَّةُ التَّصْوِيتِ بالحرف؛ لِقُوَّةِ الاعتماد عليه في المخرج حتى مَنَعَ جَرَيَانَ النَّفَسِ معه» ، بل كانوا يقولون ما قاله سيبويه :(حرفٌ أُشِبَع الاعتماد في موضعه، ومنع النَّفَسَ أن يجري معه حتى ينقضي الاعتماد عليه ويجري الصوت) ولا يخفى الفرق بين التعبيرين ، وزاد الطين بعض المعاصرين بِلَّةً حين قالوا في تعريف الجهر : (انحباس جري النفس عند النطق بالحرف) ، ولا يُتَوَقَّعُ أن تسهم هذه (التحريفات) في فهم كلام سيبويه على حقيقته.
وأحسب أنَّ جَمْعَ ما قال سيبويه عن صفة الجهر والهمس ومحاولة فهمه في ضوء تعريف أهل الأصوات أولى من جعله في تناقض معه ، ومن النصوص المهمة التي أهملها كثير من الباحثين في زماننا قول سيبويه في الكتاب (4/ 174) : إن المجهور أُشْرِبَ صوتَ الصدر ، وإن المهموس يخرج بصوت الفم فقط ، وحين اشتكى الأخفش من صعوبة فهم تعريف سيبويه للمجهور والمهموس ذكر له سيبويه أن المجهور لا يتبين حتى يدخله صوت الصدر، والمهموس يخرج من مخرجه (ينظر شرح السيرافي على كتاب سيبويه 5/ 396 طبعة العلمية).
وأختم كلامي على تعريف سيبويه للمجهور بالإشارة إلى احتمال أن يكون سيبويه يريد بقوله : إن المجهور (مَنَعَ النَّفَس أن يجري معه) ، والمهموس (جرى النَّفَس معه) ما أشرت إليه من أن نَفَس المجهور قليل ، ونَفَس المهموس كثير ، مع حاجة إشارة سيبويه إلى ترديد الحرف مع جري النفس إلى مزيد تأمل.
تعريف المجهور والمهموس عند أهل الأصوات :وَصَفَ الأخ حسان تعريف أهل الأصوات للمجهور والمهموس بأنه خطأ مردود ، مع أنه يقول : إنه (مبني على حقائق علمية مؤكدة) ! ، وعلَّل قوله بأمرين أحسب انه لم يوفق فيهما :
الأول: أن هذا التعريف لا يفيدُ الطالبَ شيئًا؛ لأنَّهُ لا يُمكِنُه التَّحكمُ في اهتزاز الوترين.
والثاني: إثباتُهم أنَّ الطاء والقاف من المهموسة وأنها ممّا يهتزُّ معها الوتران..
أما القول بأن (التعريف لا يفيد الطالب شيئاً لأنه لا يمكنه التحكم في اهتزاز الوترين) فلا أوافقه عليه ، فالتعريف مفيد في التمييز بين المجهور والمهوس حتى لصغار الطلبة ، فإذا طلبنا من أحدهم أن يضع راحة يديه على أذنيه أمكنه ذلك ، وإذا طلبنا منه أن ينطق : ذذذ ، بعدها : ث ث ث ، وسألناه عن الفرق بينهما لقال أسمع مع الذال دوياً لا أسمعه مع الثاء ، فيقال له حينئذ : كل صوت تسمع معه الدَّوِيَّ مجهور ، والذي ليس معه دَوِيٌّ مهموس.
وأعجب من قول الأخ حسان : (لا يمكنه التحكم في اهتزاز الوترين)!
وأما قوله : إن الطاء والقاف من المهموسة مع اهتزاز الوترين معهما فلم يشتهر القول باهتزاز الوترين عند النطق بهما ، ووَصْفُهُما بالجهر عند المتقدمين وبالهمس عند المحدثين من المسائل الخلافية التي تعددت وجهات النظر في تفسيرها.
وأحسب أن المقام لا يحتمل الاسترسال في المقال ، ولكني أود التذكير بأهمية التوسع في دراسة آلية النطق عند الإنسان ، لتنكشف حقيقة تلك الصفات ، ولتجنب الخطأ في فهم كلام السلف عنها بحمله على وجه يتناقض من تلك الحقيقة.
وأسأل الله تعالى لي ، وللأخ حسان ، ولقارئ هذه السطور ، التوفيق للصواب.