من المعلوم أن رسم المصاحف العثمانية فيه كثير من الظواهر التي لا يتطابق فيها المنطوق مع المرسوم ، فهناك حروف ثابتة في النطق محذوفة من الرسم ، وهناك حروف ثابتة في الرسم ليس لها مقابل في النطق ، وهناك حروف رُسِمَت بغير الرموز المخصصة لها ، وكلمات وصلت في مواضع وفصلت في أخرى...
وإذا كان البحث في الكتابات القديمة قد كشف عن تطور الكتابة العربية التي ٱسْتُعْمِلَتْ في تدوين القرآن ورُسِمَت بها المصاحف ، عن الكتابة النبطية ، وأن كثيراً من خصائصها قد انتقلت إلى الكتابة العربية ، وهو ما يفسر لنا كثيراً من ظواهر الرسم التي لا يتطابق فيها النطق مع الرسم ، فإن علماء العربية المتقدمين والباحثين في رسم المصحف لم تكن هذه الحقيقة ماثلة أمام أعينهم ، ومن ثم وجدوا أنفسهم أمام ظواهر كتابية تحتاج إلى تفسير ، فاجتهدوا في البحث عن ذلك التفسير... ويمكن للدارس تمييز عدة مذاهب في هذا المجال...
المذهب الأول: ظواهر الرسم من سوء هجاء الأولين:
وقع عدد من علماء العربية وعلماء الكلام تحت هيمنة القاعدة التي صاغها علماء الكتابة العربية في القرنين الثاني والثالث الهجريين والقائلة بوجوب كتابة الكلمة بحروف هجائها ، مبدوءاً بها وموقوفاً عليها ، ومن ثم حكموا على ما جاء من ظواهر الرسم التي لم تخضع لهذه القاعدة بأنها من لحن الهجاء ، وفاتهم أن تقاليد الكتابة كانت في زمن رسم المصاحف تبيح للكاتب رسم الكلمة مبدوءاً بها وموصولة بما بعدها ، فكان كُتَّاب المصاحف يكتبون بكتابة عصرهم...
المذهب الثاني: ظواهر الرسم تدل على أسرار خفية أو معان إضافية:
تَوَقَّفَ عدد من العلماء المتأخرين عند خروج مواضع في رسم المصاحف عن قوانين الكتابة التي اعتادوا عليها ، وقالوا: إن مخالفة هذه المواضع لتلك القوانين يراد بها الدلالة على معان إضافية قصد الصحابة – رضوان الله عليهم – الدلالة عليها من خلال ما ورد في الرسم من حذف أو زيادة أو بدل أو وصل أو قطع ، وغاب عن أولئك العلماء أن تلك القوانين لم تكن معروفة في عصر نسخ المصاحف ، ولا مأخوذ بها في الكتابة ، وأنها من وضع علماء العربية في القرنين الثاني والثالث الهجريين ، وأنه من الخطأ إخضاع رسم المصحف لها...
المذهب الثالث: التعليل اللغوي لظواهر الرسم:
الكتابة رموزٌ خطية لتمثيل أصوات اللغة المنطوقة ، ومَرَّت الكتابة بمراحل من التطور حتى صار لكل صوت لغوي واحد رمز كتابي واحد ، لكن الرواسب التاريخية والعادات الكتابية المتوارثة أَثَّرَتْ على دقة تمثيل الكتابة للغة المنطوقة ، ومن ثم فإن أكثر الكتابات القديمة والحديثة تعاني من قصور يتمثل في حذف رموز أو زيادة رموز أو إبدال رموز بغيرها .
وإذا أراد الدارس أن يبحث عن تفسير مقبول لظواهر رسم المصحف التي لا يتطابق فيها المكتوب مع المنطوق فإن عليه أن يرجع إلى الحقبة التي سبقت البعثة النبوية ويدرس خصائص الكتابة العربية آنذاك ، لأن كُتَّاب الوحي دَوَّنوا القرآن الكريم في الرقاع والصحف والمصاحف بالكتابة العربية التي كانت سائدة في عصرهم...
القسم:
فوائد و لطائف
التاريخ:
10 أكتوبر
2014
لايوجد تعليقات