تمتاز معظم الكتابات بعدم المطابقة بين الرموز المكتوبة والأصوات المنطوقة ، وتتفاوت في ذلك ، وكان في الكتابة العربية قبل أن يعمل علماء اللغة على ضبط قواعدها مظاهر من عدم المطابقة تلك ، وبرزت تلك المظاهر في رسم المصاحف الأولى المجردة من نِقَاط الإعجام وعلامات الحركات... وكان جمهور العلماء المشتغلين بعلم رسم المصحف يَنُصُّونَ على وجوب اتباعه في كتابة المصاحف ، لكنَّ مِن المتأخرين مَن نَسَبَ إليهم القول بأن رسم المصحف توقيفي ، قال الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني : " هل رسم المصحف توقيفي ؟ للعلماء في رسم المصحف آراءٌ ثلاثة ، الرأي الأول: أنه توقيفي لا يجوز مخالفته ، وذلك مذهب الجمهور ... " (1). وينبغي لدارس رسم المصحف ألا يخلط بين أمرين ، الأول: القول بوجوب اتباع رسم المصاحف المُعَبَّر عنه بالرسم العثماني ، والثاني: القول بأن ذلك الرسم توفيقي (2) ، فجمهور علماء الأمة من المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين يقولون بوجوب اتباع الرسم والمحافظة عليه في كتابة المصاحف ، أما القول بأن الرسم توقيفي فإن المؤلفين في رسم المصحف من المتقدمين لم يتعرضوا لهذه المسألة في كتبهم ، وظهرت عند المتأخرين والمعاصرين ، وحملوا رأي الجمهور بوجوب اتباع الرسم على أنه دليل على التوقيف ، وبين الأمرين فرق ، ولا يلزم القول بأحدهما القول بالثاني . قال أبو الحسين أحمد بن فارس ( ت 395هـ ) ، وهو يتحدث عن أصل الخط العربي وأول من كتب به: " والذي نقوله فيه: إن الخط توقيف " (3) ، يعني أنه من عند الله تعالى وَقَّفَ آدم عليه السلام أو غيره من الأنبياء عليه ، لكن ابن فارس لم ينص على أن رسم المصحف توقيفي . وأكثر ما اعتنى به المؤلفون في رسم المصحف من المتقدمين هو التأكيد على وجوب اتباع الرسم العثماني في كتابة المصاحف...ولم يصرحوا بكون الرسم توقيفياً ، كما صرَّح بعض المتأخرين والمعاصرين . ويبدو أن الذي فتح الطريق إلى القول بكون الرسم توقيفياً الشيخ عبد العزيز الدباغ ( ت 1132هـ ) مما نقله عنه تلميذه أحمد بن المبارك ( ت 1155هـ ) في كتابه ( الإبريز ) فقد سأله: " فهل رَسْمُ القرآن على الصفة المذكورة صادر من النبي صلى الله عليه وسلم أو من ساداتنا الصحابة؟ فقال : هو صادر منه ، وهو الذي أمر الكُتَّاب من الصحابة أن يكتبوه على الهيئة المذكورة ، فما زادوا ولا نقصوا على ما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم " (4). وحين قال له تلميذه أحمد بن المبارك: " فإن جماعة من العلماء رحمهم الله ترخصوا في أمر الرسم ، وقالوا: إنما هو اصطلاح من الصحابة جروا فيه على ما كانت قريش تكتب عليه في الجاهلية ... " ، أجابه بقوله: " ما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن العزيز ولا شعرة واحدة ، وإنما هو توقيف من النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على الهيئة المعروفة بزيادة الأحرف ونقصانها ، لأسرارٍ لا تهتدي إليها العقول ، وما كانت العرب في جاهليتها ولا أهل الإيمان من سائر الأمم في أديانهم يعرفون ذلك ، ولا يهتدون بعقولهم إلى شيء منه ، وهو سر من أسراره ، خصَّ الله به كتابه العزيز ... وكل ذلك لأسرار إلهية وأغراض نبوية ، وإنما خفيت على الناس ، لأنها من الأسرار الباطنية التي لا تدرك إلا بالفتح الرباني " (5) . والمتتبع للروايات المتعلقة بكتابة القرآن في زمنه صلى الله عليه وسلم وجَمْعِهِ في الصحف ونَسْخِهِ في المصاحف ، لا يجد ما يشير إلى شيء من التوقيف في الكتابة ، بل يجد أن الصحابة – رضوان الله عليهم – أعملوا فكرهم في اختيار الرسم المناسب ، في ضوء القاعدة التي وضعها لهم أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه حين قال لكُتَّاب المصاحف: " إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في عربية من عربية القرآن فٱكتبوها بلسان قريش ، فإن القرآن أنزل بلسانهم ، ففعلوا " (6) . ورُوِيَ عن الزهري أن كتبة المصاحف " اختلفوا يومئذ في ( التابوت ) و ( التابوه ) ، فقال النفر القرشيون: ( التابوت ) ، وقال زيد: ( التابوه ) : فَرُفِعَ اختلافهم إلى عثمان ، فقال: اكتبوه ( التابوت ) فإنه بلسان قريش " (7) . أما قول الشيخ عبد العزيز الدباغ: إن العرب في جاهليتها لم تعرف هذه الكتابة فإن ذلك بحسب ما كان معروفاً للشيخ – رحمه الله – أما في زماننا فقد كشفت الدراسات أن الكتابة العربية قبل الإسلام كانت تحمل الخصائص التي ظهرت في رسم المصاحف العثمانية ، على نحو ما تقدَّم في التمهيد عند الحديث عن خصائص الكتابة العربية قبل تدوين القرآن الكريم . وذهب عدد من الباحثين المُحْدَثِينَ والمعاصرين إلى أن رسم المصحف توقيفي (8) ، واحتجوا بحجج عقلية تتعلق بوجوب الالتزام بالرسم العثماني في كتابة المصاحف ، ونقل بعضهم حديثاً يروى عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أنه كان يكتب بين يديه صلى الله عليه وسلم فقال له: " أَلِقِ الدواةَ ، وحَرِّفِ القلم ، وأَقِمِ الباءَ ، وفَرِّقِ السينَ ، ولا تُعوِّر الميمَ ، وحَسِّنِ اللهَ ومُدَّ الرحمنَ ، وجَوِّدِ الرحيمَ " (9) ، وليس للحديث سند يعتمد عليه (10) ، كما أن مضمونه لا يدل على أن رسم المصحف توقيفي . وقديماً قال القاضي الباقلاني: " ولم يؤخذ على كتبة القرآن وحُفَّاظِ المصاحف رَسْماً بعينه دون غيره ... بل السُّنَة دَلَّتْ على جواز كَتْبِهِ بأي رسم سَهُلَ وسَنَحَ للكاتب ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر برسمه وإثباته على ما بيناه سالفاً ، ولا يأخذ أحداً بخط محدود ورسم محصور ، ولا يسألهم عن ذلك ، ولا يُحفظ فيه حرف واحدٌ "(11) . و صَرَّحَ عدد من المحدثين بأن رسم المصاحف العثمانية اصطلاحي ، وفي مقدِّمتهم الشيخ محمد طاهر الكردي ، الذي أورد عدداً من الأدلة التي تدفع أن يكون الرسم توقيفياً (12) ، وهو الرأي الراجح في هذه القضية (13) ، وهو لا يتعارض مع القول بوجوب الالتزام بالرسم العثماني في كتابة المصاحف .
_____________________ (1) مناهل العرفان 1 /370 . (2) ينظر: صبحي صالح: مباحث في علوم القرآن ص278 . (3) الصاحبي ص10 . (4) الإبريز ص116 . (5) الإبريز ص16-120 . (6) صحيح البخاري ص991 ( رقم الحديث 4984 ) . (7) ابن أبي داود: كتاب المصاحف ص198 . (8) ينظر: المخللاتي: إرشاد القراء والكاتبين 1 /175 ، والضباع: سمير الطالبين ص18 ، والشنقيطي: كتاب إيقاظ الأعلام ص13 ، والزرقاني: مناهل العرفان1 /370 ، وعبد الحي حسين الفرماوي: رسم المصحف وضبطه ص345و373 ، وشعبان محمد إسماعيل: رسم المصحف وضبطه ص78 . (9) ينظر: القاضي عياض: الشفا 1 /702 ، والسمعاني: أدب الإملاء والاستملاء ص170 . (10) ينظر: عبد الله بن يوسف: الجديع: المقدمات الأساسية في علوم القرآن ص141 هامش1 . (11) الانتصار للقرآن 2 /547-548 . (12) ينظر: تاريخ القرآن ص98-100 . (13) ينظر: صبحي صالح: مباحث في علوم القرآن 277 ، و عبد الله بن يوسف الجديع: المقدمات الأساسية في علوم القرآن ص141 ، ومساعد بن سليمان الطيار: المحرر في علوم القرآن ص223 ، ومقالات في علوم القرآن وأصول التفسير ( له ) ص73 .