بسم الله الرحمن الرحيم
كنتُ أسمعُ كثيراً ، من خطباء الجمعة ومن مجالس الوعظ ، قولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه : " اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ " ، وكنت أسمع هذه الموعظة ، لكن سرعان ما يأتي عليها النسيان ، وقد أتذكرها حين يعتريني مرض ، أو بعض المتاعب. لكنَّ تَقَدُّمَ العمر بي ، وما صِرْتُ أَتَقَلَّبُ فيه من أحوال ، جعلني أتذكر هذه الموعظة العظيمة حيناً بعد حين ، وأحْبَبْتُ أن أُذَكِّرَ إخواني بها ، فإنها قد جمعتْ معاني عظيمة تصلح أن تكون دستوراً لحياة المرء يسير عليه ، ولا عجب في ذلك فرسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم ، من المعاني العظيمة في اللفظ الوجيز. وقد نظرتُ وأنا أكتب هذه السطور في كتب الحديث للتثبت من صحة هذا الحديث فوجدت أنه قد رُوِيَ من طريقين ، فقد رواه عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد (رقم 2) من طريق عمرو بن ميمون الأَوْدِيِّ ، وهو معدود من كبار التابعين ، ورواه الحاكم في المستدرك عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (رقم 7846) ، وقال : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يُخْرِجَاهُ " ، وأَقَرَّهُ الذهبي. وتناقلت كتب الحديث الروايتين بالشرح والتعليق ، وقال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في صحيح الجامع الصغير (رقم 1077) : " صحيح ". وقد قال زين الدين المناوي (ت 1031هـ) في شرح الحديث في كتابه فيض القدير شرح الجامع الصغير (2/ 16) : (اغتنم خمساً قبلَ خَمْسٍ) أي افْعَلْ خمسةَ أشياءَ قبلَ حصولِ خمسةِ أشياء. (حياتَكَ قبلَ مَوْتِكَ) يعني : اغتنمْ ما تَلْقَى نَفْعَهُ بعدَ موتِكَ ، فإنَّ مَن مات انقطعَ عَمَلُهُ ، وفاتَهُ أَمَلُهُ ، وحَقَّ نَدَمُهُ ، وتَوَالَى هَمُّهُ ، فاقْتَرِضْ منكَ لك. (وصِحَّتَكَ قبلِ سَقَمِكَ) أي : اغتنمِ العملَ حالَ الصحةِ ، فقد يَمْنَعُ مانعٌ كمَرَضٍ ، فَتَقْدِمَ المَعَادَ بغيرِ زادٍ. (وفراغَكَ قبلَ شُغْلِكَ) أي : اغتنمْ فراغَكَ في هذه الدارِ قبلَ شُغْلِكَ بأهوالِ القيامةِ التي أَوَّلُ منازلِهَا القَبْرُ ، فاغتنمْ فرصةَ الإمكانِ ، لعلَّكَ تَسْلَمُ مِن العذابِ والهَوَانِ. (وشبابَكَ قبلَ هَرَمِكَ) أي : اغتنمْ الطاعةَ حالَ قُدْرَتِكَ قبلَ هُجُومِ عَجْزِ الكِبَرِ عليكَ ، فَتَنْدَمَ على ما فَرَّطْتَ في جَنْبِ الله. (وغِنَاكَ قبلَ فَقْرِكَ) أي : اغتنمِ التَّصَدُّقَ بفضولِ مَالِكَ قبلَ عُرُوضِ جائحةٍ تُفْقِرُكَ ، فَتَصِيرَ فقيراً في الدنيا والآخرة. فهذهِ الخمسةُ لا يُعْرَفُ قَدْرُهَا إلا بعدَ زوالِهَا ، ولهذا جاء في خَبَرٍ: نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فيهما كثيرٌ منَ الناسِ : الصِّحَّةُ والفَرَاغُ". فيا إخواني ، أُذَكِّرُكُم بهذه الموعظة ، وأُذَكِّرُ نفسي – قبلَ فواتِ الأوانِ - في اغتنام الفرصة ، فقد كنت شاباً مثلكم أستطيع أنْ أُوَاصِلَ العملَ ساعاتٍ ، مِن غيرِ كَلَلٍ ، واليوم أصبحتُ عاجزاً عن القيام بكثير من الأعمال ، وأتأسَّفُ على ما فاتَ من تلك السنين ، وكذلك كنت صحيحاً ، لا يَمْنَعُنِي من العمل مانع إلا التسويف أو الكسل ، واليومَ أشتهي أن أعمل لكن تمنعني أمراضُ تَقَدُّمِ العُمُرِ ، مِن آلامِ في الظَّهْرِ ، وضَعْفِ في النظر ، ورِقَّةٍ في القلب ، وإذا كنا ونحن في الحياة نستطيع تدارك بعض ما فات فإن حلول الأجل يقطع الأسباب ، ويقفل الأبواب إلا باب الحساب ، والله المستعان ، فاقبلوا هذه الموعظة النبوية الذهبية ، واغتنموا هذه النعم التي تتقلبون فيها من شباب ، وصحة ، وفراغ ، وغِنًى ، خَتَمَ الله لي ولكم بالحسنى ، ورضي الله عني وعنكم في الآخرة والأولى . وفي الختام أسألُ اللهَ تعالى أن يجعلَ شهرَ رمضانَ مباركاً علينا وعليكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 30/شعبان/ 1435هـ